سورة النحل - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)}
اعلم أنه تعالى لما بالغ في تقرير دلائل التوحيد وأورد الدلائل القاهرة في إبطال مذاهب عبدة الأصنام، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها.
فالشبهة الأولى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما احتج على صحة نبوة نفسه بكون القرآن معجزة طعنوا في القرآن وقالوا: إنه أساطير الأولين، وليس هو من جنس المعجزات، وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: اختلفوا في أن ذلك السائل من كان؟ قيل هو كلام بعضهم لبعض، وقيل هو قول المسلمين لهم، وقيل: هو قول المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سألهم وفود الحاج عما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المسألة الثانية: لقائل أن يقول: كيف يكون تنزيل ربهم أساطير الأولين؟
وجوابه من وجوه:
الأول: أنه مذكور على سبيل السخرية كقوله تعالى عنهم: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لمجنون} [الشعراء: 27]، وقوله: {يأَيُّهَا الذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] وقوله: {يأَيُّهَ الساحر ادع لَنَا رَبَّكَ} [الزخرف: 49].
الثاني: أن يكون التقدير هذا الذي تذكرون أنه منزل من ربكم هو أساطير الأولين.
الثالث: يحتمل أن يكون المراد أن هذا القرآن بتقدير أن يكون مما أنزله الله لكنه أساطير الأولين ليس فيه شيء من العلوم والفصاحة والدقائق والحقائق.
واعلم أنه تعالى لما حكى شبههم قال: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة} اللام في ليحملوا لام العاقبة، وذلك أنهم لم يصفوا القرآن بكونه أساطير الأولين لأجل أن يحملوا الأوزار، ولكن لما كانت عاقبتهم ذلك حسن ذكر هذه اللام كقوله: {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ} [القصص: 8] وقوله: {كَامِلَةٌ} معناه: أنه تعالى لا يخفف من عقابهم شيئاً، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وأقول: هذا يدل على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين، إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً في حق الكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار بهذا التكميل معنى، وقوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} معناه: ويحصل للرؤساء مثل أوزار الأتباع، والسبب فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أيما داع دعا إلى الهدى فاتبع كان له مثل أجر من اتبعه لا ينقص من أجورهم شيء وأيما داع دعا إلى ضلالة فاتبع كان عليه مثل وزر من اتبعه لا ينقص من آثامهم شيء».
واعلم أنه ليس المراد منه أنه تعالى يوصل العقاب الذي يستحقه الأتباع إلى الرؤساء، وذلك لأن هذا لا يليق بعدل الله تعالى، والدليل عليه قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وقوله: {وَلاَ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] بل المعنى: أن الرئيس إذا وضع سنة قبيحة عظم عقابه، حتى أن ذلك العقاب يكون مساوياً لكل ما يستحقه كل واحد من الأتباع، قال الواحدي: ولفظه: {مِنْ} في قوله: {وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ} ليست للتبعيض، لأنها لو كانت للتبعيض لخف عن الأتباع بعض أوزارهم، وذلك غير جائز، لقوله عليه السلام: «من غير أن ينقص من أوزارهم شيء» ولكنها للجنس، أي ليحملوا من جنس أوزار الأتباع. وقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يعني أن هؤلاء الرؤساء إنما يقدمون على هذا الإضلال جهلاً منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على ذلك الإضلال ثم إنه تعالى ختم الكلام بقوله: {أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ} والمقصود المبالغة في الزجر.
فإن قيل: إنه تعالى لما حكى عن القوم هذه الشبهة لم يجب عنها، بل اقتصر على محض الوعيد؛ فما السبب فيه؟
قلنا: السبب فيه أنه تعالى بين كون القرآن معجزاً بطريقين:
الأول: أنه صلى الله عليه وسلم تحداهم بكل القرآن، وتارة بعشر سور، وتارة بسورة واحدة، وتارة بحديث واحد، وعجزوا عن المعارضة، وذلك يدل على كونه معجزاً.
الثاني: أنه تعالى حكى هذه الشبهة بعينها في آية أخرى وهو قوله: {اكتتبها فَهِىَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] وأبطلها بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السموات والأرض} [الفرقان: 6] ومعناه أن القرآن مشتمل على الأخبار عن الغيوب، وذلك لا يتأتى إلا ممن يكون عالماً بأسرار السموات والأرض، فلما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرح هذين الطريقين مراراً كثيرة لا جرم اقتصر في هذه الآية على مجرد الوعيد ولم يذكر ما يجري مجرى الجواب عن هذه الشبهة، والله أعلم.


{قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)}
اعلم أن المقصود من الآية المبالغة في وصف وعيد أولئك الكفار، وفي المراد بالذين من قبلهم قولان:
القول الأول: وهو قول الأكثر من المفسرين أن المراد منه نمروذ بن كنعان بنى صرحاً عظيماً ببابل طوله خمسة آلاف ذراع. وقيل فرسخان، ورام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها، فالمراد بالمكر هاهنا بناء الصرح لمقاتلة أهل السماء.
والقول الثاني: وهو الأصح، أن هذا عام في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضرر والمكر بالمحقين.
أما قوله تعالى: {فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: أن الإتيان والحركة على الله محال، فالمراد أنهم لما كفروا أتاهم الله بزلازل قلع بها بنيانهم من القواعد والأساس.
المسألة الثانية: في قوله: {فَأَتَى الله بنيانهم مّنَ القواعد} قولان:
القول الأول: أن هذا محض التمثيل، والمعنى أنهم رتبوا منصوبات ليمكروا بها أنبياء الله تعالى فجعل الله تعالى حالهم في تلك المنصوبات مثل حال قوم بنوا بنياناً وعمدوه بالأساطين فانهدم ذلك البناء، وضعفت تلك الأساطين، فسقط السقف عليهم. ونظيره قولهم: من حفر بئراً لأخيه أوقعه الله فيه.
والقول الثاني: أن المراد منه ما دل عليه الظاهر، وهو أنه تعالى أسقط عليهم السقف وأماتهم تحته، والأول أقرب إلى المعنى.
أما قوله تعالى: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} ففيه سؤال: وهو أن السقف لا يخر إلا من فوقهم، فما معنى هذا الكلام.
وجوابه من وجهين:
الأول: أن يكون المقصود بالتأكيد.
والثاني: ربما خر السقف، ولا يكون تحته أحد، فلما قال: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} دل هذا الكلام على أنهم كانوا تحته، وحينئذ يفيد هذا الكلام أن الأبنية قد تهدمت وهم ماتوا تحتها. وقوله: {وأتاهم العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} إن حملنا هذا الكلام على محض التمثيل فالأمر ظاهر. والمعنى: أنهم اعتمدوا على منصوباتهم. ثم تولد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر فالمعنى أنه نزل ذلك السقف عليهم بغتة، لأنه إذا كان كذلك كان أعظم في الزجر لمن سلك مثل سبيلهم، ثم بين تعالى أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذا القدر، بل الله تعالى يخزيهم يوم القيامة، والخزي هو العذاب مع الهوان، وفسر تعالى ذلك الهوان بأنه تعالى يقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الذين كُنتُمْ تشاقون فِيهِمْ} وفيه أبحاث:
البحث الأول: قال الزجاج: قوله: {أَيْنَ شُرَكَائِىَ} معناه: أين شركائي في زعمكم واعتقادكم. ونظيره قوله تعالى: {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمْ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] وقال أيضاً: {وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} [يونس: 28] وإنما حسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سبب، وهذا كما يقال لمن يحمل خشبة خذ طرفك وآخذ طرفي، فأضيف الطرف إليه.
البحث الثاني: قوله: {تشاقون فِيهِمْ} أي تعادون وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، وقيل: المشاقة عبارة عن كون أحد الخصمين في شق وكون الآخر في الشق الآخر.
البحث الثالث: قرأ نافع: {تشاقون} بكسر النون على الإضافة، والباقون بفتح النون على الجمع.
ثم قال تعالى: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم إِنَّ الخزى اليوم والسوء عَلَى الكافرين} وفيه بحثان:
البحث الأول: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} قال ابن عباس: يريد الملائكة، وقال آخرون هم المؤمنون يقولون حين يرون خزي الكفار يوم القيامة إن الخزي اليوم والسوء على الكافرين، والفائدة فيه أن الكفار كانوا ينكرون على المؤمنين في الدنيا فإذا ذكر المؤمن هذا الكلام يوم القيامة في معرض إهانة الكافر كان وقع هذا الكلام على الكافر وتأثيره في إيذائه أكمل وحصول الشماتة به أقوى.
البحث الثاني: المرجئة احتجوا بهذه الآية على أن العذاب مختص بالكافر قالوا لأن قوله تعالى: {إِنَّ الخزى اليوم والسوء عَلَى الكافرين} يدل على أن ماهية الخزي والسوء في يوم القيامة مختصة بالكافر، وذلك ينفي حصول هذه الماهية في حق غيرهم، وتأكد هذا بقول موسى عليه السلام: {إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] ثم أنه تعالى وصف عذاب هؤلاء الكفار من وجه آخر فقال: {الذين تتوفاهم الملائكة ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} قرأ حمزة: {يتوفاهم الملائكة} بالياء لأن الملائكة ذكور، والباقون بالتاء للفظ.
ثم قال: {فَأَلْقَوُاْ السلم مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت، قال ابن عباس: أسلموا وأقروا لله بالعبودية عند الموت. وقوله: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} أي قالوا ما كنا نعمل من سوء! والمراد من هذا السوء الشرك، فقالت الملائكة رداً عليهم وتكذيباً: بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون من التكذيب والشرك، ومعنى بلى رداً لقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} وفيه قولان:
القول الأول: أنه تعالى حكى عنهم إلقاء السلم عند القرب من الموت.
والقول الثاني: أنه تم الكلام عند قوله: {ظَالِمِى أَنفُسِهِمْ} ثم عاد الكلام إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة، والمعنى: أنهم يوم القيامة ألقوا السلم وقالوا ما كنا نعمل في الدنيا من سوء، ثم هاهنا اختلفوا، فالذين جوزوا الكذب على أهل القيامة، قالوا: هذا القول منهم على سبيل الكذب وإنما أقدموا على هذا الكذب لغاية الخوف، والذين قالوا إن الكذب لا يجوز عليهم قالوا: معنى الآية، ما كنا نعمل من سوء عند أنفسنا أو في اعتقادنا، وأما بيان أن الكذب على أهل القيامة هل يجوز أم لا؟ فقد ذكرناه في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم قالوا: ما كنا نعمل من سوء قال بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون، ولا يبعد أن يكون قائل هذا القول هو الله تعالى أو بعض الملائكة رداً عليهم وتكذيباً لهم، ومعنى بلى الرد لقولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} وقوله: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} يعني أنه عالم بما كنتم عليه في الدنيا فلا ينفعكم هذا الكذب فإنه يجازيكم على الكفر الذي علمه منكم. ثم صرح بذكر العقاب فقال:


{فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)}
وهذا يدل على تفاوت منازلهم في العقاب، فيكون عقاب بعضم أعظم من عقاب بعض، وإنما صرح تعالى بذكر الخلود ليكون الغم والحزن أعظم.
ثم قال: {فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين} على قبول التوحيد وسائر ما أتت به الأنبياء، وتفسير التكبر قد مر في هذا الكتاب غير مرة، والله أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8